التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في هذا المقال يتحدث الدكتور محمد سهيل طقوش عن أحوال الدولة الفارسية قبيل الفتح الإسلامي، خاصَّةً الأوضاع الاجتماعية والدينية، ويُحلل فيه الكاتب طبقات
أوَّلًا :الأوضاع الاجتماعية:
لم يكن تغيير الأسرة الحاكمة في فارس حدثًا سياسيًّا فحسب، بل امتاز بظهور روحٍ جديدةٍ في الدولة، والطابعان المميِّزان للنظام الجديد هما: تركيز قوى السلطان، واتِّخاذ دينٍ رسميٍّ للدولة. وإذا كان الطابع الأوَّل هو عودة إلى التقاليد التي سادت أيَّام الملك دارا[1]، فإنَّ الطابع الثاني يُعد تجديدًا، وفي مقابل تطوُّر الحياة العامَّة والتنظيم الإداري؛ فإنَّ الهيكل الاجتماعي والإداري الذي أنشأه أو أكمله مؤسِّس الدولة الساسانيَّة بقي حتى نهايتها من الأمور المقدَّسة التي لا تحتمل التغيير[2].
قام المجتمع الفارسي على نظامٍ ملزمٍ للطبقات، ونصَّت الأوستا-الكتاب المقدَّس للفرس- على ثلاث طبقات هي: رجال الدين، رجال الحرب والحرَّاثين، وأصحاب المهن والحرف إذا استثنينا طبقة الحكام، غير أنَّ تطوُّر الحياة العامَّة في الدولة الساسانيَّة أفرز نظامًا سباعيًّا على أساس سبع طبقات، وقُسِّمت كلُّ طبقةٍ بدورها إلى عدَّة أقسام.
الطبقة الأولى: الملوك؛ وتشمل الأمراء وحكَّام الولايات، وعلى رأس هؤلاء ملك فارس الذي يحكم وفقًا لنظريَّة الحقِّ الإلهيِّ المقدَّس للملوك، ويُدعى حاكم الولاية مرزبان، ويحمل لقب ملك "شاه"، والإمارة وراثيَّة شرط الالتزام بما يفرضه ملك الملوك من تدابير يتمثَّل بعضها بالتزام الأمير المقطع وضع قوَّاته العسكريَّة تحت تصرفه وتأدية جزيةٍ معيَّنة[3].
الطبقة الثانية: الأشراف؛ ويُشكِّل هؤلاء الطبقة القويَّة المكوَّنة من رؤساء الأسر السبع الممتازة، ويحقُّ لهم وضع التيجان على رءوسهم؛ لأنَّهم كانوا أساسًا مساوين لملك فارس لكنَّ تيجانهم أصغر حجمًا، ولكلٍّ من هذه الأسر منطقة نفوذٍ تُقيم فيها إلى جانب انخراط أفرادها في البلاط، ويحتكرون بعض الوظائف العامَّة مثل: تتويج الملك، التعبئة العسكريَّة، وإدارة شئون الحرب، الإدارات المدنيَّة، فضِّ النزاع بين المتخاصمين الراغبين في التحكيم، قيادة الفرسان، جباية الضرائب، وغيرها. والراجح أنَّ هذه الوظائف شرفيَّة استنادًا إلى خصائص الحكومة المطلقة التي كانت في الواقع أساس الحكم في الدولة الساسانية؛ إذ من غير المنطقي أن تخضع وظائف رئاسة الوزارة وقيادة الجيش لعمليَّة الانتقال بالميراث من رجلٍ لآخر، وألَّا يكون لملك الملوك حقُّ اختيار مستشاريه[4].
الطبقة الثالثة: رجال الدين؛ وهم عدَّة أقسام يرأسهم موبذان موبذ، ثُم المؤابذة والزهاد والسدنة "الهرابذة" الهربذ هو خادم النار، ويُدير السدنة المراسم الدينية في المعابد، ويترأَّس الهرابذة هربذان هربذ، ثُمَّ المراقبون والمعلمون والسدنة الروحيون وهم المغان[5].
الطبقة الرابعة: رجال الحرب؛ يترأَّسهم إيران سپاهيد، وتشمل صلاحياته وزارة الحرب وقيادة الجيش العليا، وله صلاحيَّة إجراء مفاوضات الصلح. يتألَّف الجيش الفارسي من الفرسان والمشاة، ولكلٍّ من القسمين رتبه وموظفوه، ويُطلق على ضبَّاط الجيش لقب الأساورة، ومن رجال الجيش -أيضًا- الحرس الملكي[6].
الطبقة الخامسة: الكتَّاب؛ وهم موظفو الدواوين، ومنهم كتَّاب الرسائل والحسابات، ويُلقَّب رئيس هذه الطبقة بلقب إيران دبيران، ويدخل الشعراء والأطباء والمنجِّمون في هذه الطبقة.
الطبقة السادسة: الدهَّاقون؛ إنَّهم رؤساء القرى، يستمدُّون قوَّتهم من المِلْكيَّة الوراثيَّة للإدارة المحليَّة؛ فهم الرؤساء وملَّاك الأراضي والقرى، أمَّا وظيفتهم الأساسيَّة فهي استلام الضرائب وتمويل الدولة.
الطبقة السابعة: الشعب؛ وهم الفلاحون، والصُّنَّاع، والرعاة، والتُّجَّار، وأهل الحرف. تتفاوت الطبقات الاجتماعيَّة في النسب والمنزلة, ويبدو التمييز بينها واضحًا في المركب والملبس والمسكن والنساء والخدم[7]، فلكلِّ فردٍ منزلته ومرتبته ومكانه المحدَّد في الجماعة، وحُظر الانتقال من طبقةٍ إلى طبقةٍ أعلى منها بوجهٍ عام إلَّا في حدودٍ ضيِّقة، على أنَّ هذا الاستثناء لا يطال الارتقاء إلى طبقة رجال الدين، فالموبذ يجب أن يكون ابن موبذ، لاعتقاد أفراد هذه الطبقة أنَّهم أسرة واحدة لا يجوز لأجنبيٍّ أن ينتسب إليها.
ضاق الفرد الفارسي بهذا النظام؛ فهو يُربِّي أولاده ويرعاهم حتى إذا شبُّوا وبدأوا يُساعدونه على تحمُّل أعباء الحياة؛ جمعهم الأشراف ليُقدِّموهم إلى ملك الملوك الذي يقذف بهم في أتون الحروب، ولقد استهان ملك الملوك برؤساء الطبقات الرفيعة فلم يُراع حقَّ الدين والوطن، وربَّما أجلس عدو البلاد على العرش، كما أنَّ رجال الدين خلعوا لباس التقوى، وألهاهم جمع المال، وفُتنوا بالمظاهر، وأذلَّهم الطمع، وأفسد رسالتهم الحرص على الدنيا، وهم في عداءٍ سافرٍ مع الأشراف يكيد بعضهم لبعض، وكلُّ طائفةٍ تسعى لمصحلتها دون النظر إلى مصلحة المجموع[8].
أفقدت هذه الأوضاع الشاذَّة ثقة الفارسيِّ بمجتمعه ووطنه، وتزعزع إيمانه بهذا النظام، ولم تقض إصلاحات كسرى الأول أنوشروان على ما هو في نفوس الناس من الشعور بالظلم، والتطلُّع إلى من يتحدَّث عن المساواة وتكافؤ الفرص بين الناس، حتى وجدوا ذلك في الدين الإسلامي.
ثانيًا: الأوضاع الدينيَّة:
أتخذ الساسانيون -منذ بداية عهدهم- الزرادشتيَّة[9] دينًا رسميًّا، ومن خصائص هذا الدين تقديس عناصر الطبيعة، وللشمس عند الساسانيين حرمةٌ عظيمة، غير أنَّ النار أعظم شأنًا لذلك دخلت عاملًا رئيسيًّا في عباداتهم، وبيوت النار عندهم هي مراكز العبادة والتقديس.
يعتقد الزرادشتيون بوجود إلهٍ للخير والنور خالقٍ يُسمونه أهورامزدا، وإلهٍ للشرِّ والظلمة يُسمونه آهرمان ولكنَّه ليس بمستوى أهورامزدا؛ إنها إذًا نِحلة تقوم على الثنويَّة والنزاع الدائم بين إله الخير وإله الشر، لكنَّ النصر في النهاية سيكون للإله الأوَّل بما يبذله الإنسان من أعمالٍ حسنةٍ للتغلُّب على روح الشر.
وابتُلي الساسانيون بنزاعات دينيَّة بعد ظهور الديانتين المانويَّة[10] والمزدكيَّة[11] بفعل اختلاف فلسفاتها وتعاليمها، وكان تشجيع الأكاسرة لإحدى هذه الديانات يدفع معتنقيها إلى اضطهاد مخالفيهم، وقد أضاع هذا التاجر البلاد حين وضعها في جوٍّ مشحونٍ بالنزاعات.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية لمحمد سهيل طقوش.
ــــــــــــــــ
[1] دارا: تاسع ملوك الدولة الأخمينيَّة التي حكمت في إيران بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد.
[2] كريستنسن، آرثر: إيران في عهد الساسانيين: ص84، 85.
[3] كريستنسن: ص89.
[4] المرجع نفسه: ص93-96.
[5] المرجع نفسه: ص103.
[6] المرجع نفسه: ص118، 119.
[7] كريستنسن: ص302.
[8] خشاب: ص8، 9.
[9] الزرادشتيَّة: ديانة أسسها زرادشت بن يورشب في القرن السادس قبل الميلاد وتُسمَّى المجوسيَّة؛ لأنَّ قبيلة المجوس الفارسيَّة هي أوَّل من تبع الزرادشتية.
[10] المانويَّة: ظهر ماني في بلاد فارس أيَّام حكم سابور في أواسط القرن الثالث الميلادي وادَّعى النبوَّة، يقوم مذهبه على الثنويَّة؛ فمبدأ العالم كونان أحدهما نور والآخر ظلمة، وكلٌّ منهما منفصلٌ عن الآخر، فالنور هو العظيم الأوَّل وهما في صراع دائم، كان ماني متشبِّعًا بروح النصرانيَّة، لذلك فرض على أتباعه الصوم والرهبنة، والصلاة أربع مرَّاتٍ في اليوم، والزكاة المقدَّرة بعشر الأموال، والدعاء إلى الحق، وتجنُّب الكذب والقتل والسرقة والزنا والبخل والسحر؛ لأنَّ من شأن ذلك الخلاص من الشر.
[11] المزدكيَّة: حركة دينيَّة فارسيَّة ظهرت في عهد كسرى قباذ بن فيروز في أواخر القرن الخامس الميلاي على يد مزدك الذي نادى بالشيوع في الجنس والمال، وعلى المستوى التصوُّري عُدَّت المزدكيَّة من العقائد الثنويَّة التي تتقوَّل بصراع النور والظلمة.
التعليقات
إرسال تعليقك